الأحد، 27 نوفمبر 2016

في الترجمة: رهان ترجمة الحضارات



جامعة القاضي عياض                                                                           شعبة الفلسفة
كلية الآداب والعلوم الإنسانية                                                             مسلك الفلسفة
           مراكش                                                                             مادة الترجمة- الفصل السادس


  (مطبوع دراسي






                                                                  ذ. محمد موهوب


في كونية المفهوم: العدل/الضبط نموذجا

في بداية هذا المطبوع الدراسي وتمهيدا له، أقترح مشاطرتكم تجربة نموذجية لسوء فهم مما تزخر به حياتنا اليومية. إن مساءلة طبيعة سوء الفهم (نوعه، درجته، أهميته) كما سنرى، كانت ستكون هينة (وبالتالي مبتذل حكيها) لو وقف الأمر عند هذا الحد: سوء فهم على الطريقة العادية. قد توحي التجربة التي سأحكيها بذلك، إلا أنها، في استباق لنتائج البحث، لن تلبث أن تتجلى كسوء فهم أساسي ومؤسس.

 ما أود الإشارة إليه بالوقوف على التمييز السالف (العادي، الاختباري/الأساسي، الأنطولوجي) هو التأكيد على المعطى الفلسفي التالي: إن وجودنا في كل أوجهه ومناحيه معطى قابل للفهم. وذلك حتى وإن تجلت هذه القابلية في شكلها المعتل، في شكلها المستوجب للتدارك، كسوء فهم يلزم رفعه مثلا. المؤكد، رفعا للعبث وتثبيتا للمسؤولية، أن الوجود كوجود يتخذ من الفهم مجلى له، سواء كان هذا الفهم سيئا أو سديدا.

القصة المزمع سردها باختصار هي كالتالي: اقتُرح علي المساهمة في ندوة حول العدل. المقترَح تم بالفرنسية (وللإشارة أهميتها كما سيتضح فيما بعد) واتخذ تقريبا الصيغة التالية: لو ساهمت معنا بشيء ما عن العدل  Le juste. أجبت مثمنا على الطلب باقتراح العنوان التالي لمساهمتي المحتملة: العدل انطلاقا من هيدجر وعلى أثره. حتى الآن تبدو الأشياء عادية. غير أن الأمر سيبدأ في الالتباس علي عندما سأتوصل برسالة رسمية من الجهة المنظمة للندوة. الرسالة، المكتوبة بالعربية (للإشارة أهميتها مرة ثانية)، تذكرني بالتزامي المبدئي بالمشاركة وتطالبني بأن أبعث بملخص لمداخلتي في الندوة المقامة حول العدالة « La justice ».

العدل/الضبط، العدل/ العدالة[1] زوجان مفهوميان يحيلان على ميدانين وتخصصين مختلفين : الرياضيات من جهة والأخلاق (ومن ثمة الحقوق والسياسة) من جهة أخرى. إلا أن اختلاف مرجعيتيهما لا تحول بينهما وبين أن يفترض كل منهما الآخر. يقول أرسطو في كتابه الأخلاق النيقوماخية: «إذا كان الجور (الظلم، انتفاء العدل) تمييزا (في الحكم)، فإن العدل مساواة[2] (رفع للتمييز والتمايز/التفاضل». يتحدث النسفي، مفسر للقرآن من القرن الثالث عشر /الرابع عشر، في شرحه للعدل الوارد في السورة 16 من الآية 90 من القرآن، التي سنعود إليها في نهاية هذه المقالة، يتحدث عن”المساواة“.

 بربط العدل بالمساواة يرتبط بالحساب، بالرياضيات. غير أن الرياضيات المحال عليها هي أكثر من تسمية لتخصص معين. إنها إحالة على ”ما يمكن تعليمه وتعلمه[3]“. في هذا السياق يُفهم سؤال سقراط، في محاورة مينون، عن مدى إمكانية تعليم/تلقين الفضيلة (والعدل كما سنقف على ذلك هو فضيلة الفضائل). أما فيما يتعلق بالحق، بعلم الحق، بالعلم المنظم للقوانين، ما دمنا نَصف بالعدل، يقول لالاند، «من يتكلم بالحق وينطق به»، فإنه كناية عن «مجموع القواعد التي نعترف بها كقواعد صالحة[4]». إنه، باختصار تسمية لمجموع ما يُقيم سلوك الناس فيما بينهم.

هكذا نقف بالملموس على أن عدل/عدالة وعدل/ ضبط، خلافا لما يظهر، ليسا نفس الشيء. وبالتالي فما يمكن فهمه وسماعه أساسا داخل لغة (الفرنسية في سياق حديثنا) قد لا يكون بالضرورة هو ما رشَح أوَّلا في لغة أخرى (العربية في مثالنا) حتى وإن كان هو هو! ولَرُبما وسِعنا القول أن حقليهما متداخلان. عندها سيُطرح سؤال: على ماذا يحيلان معا؟ ما الذي جعلهما ملتبسين: أقصد، ما الذي غرر بنا وأوشك أن يوقعنا في المحظور وخلط موضوع بموضوع، أي الخروج عن الموضوع المتعلق، أولا وحسب المنظمين، بالعدالة؟ لأنه إذا كان الاختلاف أصليا فيهما فلا معنى لمقارنتهما، وبالتالي فسيكون الخلط مؤشرا على عدم الحذر، على التسرع وعدم الانتباه، (حتى نحيل على قاموس ديكارت) في التقريب بين شيئين متباعدين. أي أن الخلط في آخر المطاف سيكون خلطا ذاتيا. وهو خلاف ما وقفنا عليه فيما سبق : استحضار المفهومين لحقلين مختلفين، وهو ما يؤشر، بالتالي، على موضوعية الالتباس من جهة، ويبرر مساءلتنا من جهة أخرى ( ومحاولتنا الخروج من ضيق الأفق الديكارتي الذي يقيم الوعي ضدا على اللغة وعلى حدودها).

قبل أن نتقدم أكثر في التمهيد لإجابة محتملة عن ما يجمع / يفرق بين الضبط والعدل، نُذكر بخاصية يُحتفظ بها ضمن استعمالات لغوية معينة من قبيل:”من العدل أن... “، ”أوَمِن العدل أن...؟! “، ”لقد مات ميتة مقسط (عدل) “ وهي شهادة صادرة دائما عن آخر... إلى غير ذلك من الأمثلة التي تَحتفظ بها اللغة. من هنا ضرورة ومشروعية سؤال: ما المطلوب من خلال سؤال: ”أوَمِن العدل أن... ؟“ على ماذا نحيل ؟ على الضبط ؟ أم على العدالة ؟ أم عليهما معا وبالتالي على ما جعلهما ممكنين ؟

لنحاول تحديد حقلي كل من المفهومين. يدعي غورجياس، في المحاورة الافلاطونية التي تحمل اسمه، حد موضوع الخطابة على أنه «الضبط وعكسه، العدل وعكسه». وبالتالي، يقول سقراط، « من تعلم العدالة فهو عدل[5]». وعليه فليس غريبا أن ينتهي سقراط إلى إقناع  غورجياس، بأن العلم الذي يدرسه، كسوفسطائي، « شبيه بجزء من السياسة[6] ». أو ما يُلقي به سقراط، في محاورة الجمهورية (الكتاب الأول)، في وجه محاوره صِفَال: «هل نُقر فقط أن العدالة تكمن في قول الحقيقة وأن نؤدي ما استُئمنا عليه، أو أن عملا من هذا القبيل قد يكون مضبوطا (صائبا) وقد يكون غير مضبوط (غير صائب) ؟[7]»

لنعرج، فيما يتعلق بأرسطو، وقبل أن نتوقف عند تحديده لمفهوم العدالة، على ما يقوله عن الفضيلة. يورد في كتابه الأخلاق إلى نيقوماخوس، (الكتاب الثاني، الفصل السادس)، ما يلي: «هكذا فكل رجل عاقل يبتعد عن الشطط والعيب، ويبحث عن الاعتدال (الوسطية) ويخصه بالتفضيل. وهو اعتدال (وسطية) لا يتحدد في علاقة (بالنسبة) بالموضوع، وإنما يتحدد في علاقته بنا[8]». ثم يردف قائلا: « فالفضيلة إذا نوع من الوسط (...) توازن بين طرفين[9]»؛ ويتابع: «أي أن الفضيلة تكمن في كونها وسط عادل (مضبوط)[10]». وفي الأخير يعمم أرسطو تعريفه ليطول كل الفضائل قائلا: «هناك وسط عادل بين كل إفراط وتفريط[11].» الوسط/ الوسيط/ الواسطة عدل واعتدال.

إلا أن أرسطو، في لحظة من لحظات بحثه ينتبه إلى ما في هذا التعريف من تعقيد ومن هشاشة. تعقيدٌ مرتبط بالمقياس الذي نقيم به الحدود ونحدد الأطراف، ومن ثمة الوسط المضبوط، وهشاشةٌ ناتجة عن انسيابيته. لذلك خلص إلى القول: «بما أن الوسط المضبوط لا يُخص بحد (بطرف) معين، فإن الأطراف، على ما يظهر، تتنازع إن صح القول مكانا فارغا [12]».

لنلاحظ أنه وفي كل مرة يكون هناك نزاع تكون هناك دعوة ونزوع للعدالة ! وبالتالي فلم يكن هناك بد من هذا الاستطراد حول منزلة الفضيلة. فأرسطو، (الكتاب الخامس، الفصل الأول)، حتى وهو يميز بينهما يعرف العدالة بأنها «أهم الفضائل». وهو ما خول لأحد المعاصرين، جون رولس، الساعين إلى «تقديم نظرية عن العدالة، بديلة عن النظريات التقليدية التي سادت منذ القديم التقليد الغربي» القول في بداية مؤلفه عن العدالة : «العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية.[13]»

هكذا يتضح أن ما بدا لنا، في علاقة الضبط بالعدل، اختلافا، ليس سوى ظاهرا من القول. ولرُبما، على الأصح، وجب القول والإقرار بأنه اختلاف بمعنى غير الذي خطر ببالنا أول الأمر. فالعدالة، بما هي فضيلة، بل بما هي فضيلة الفضائل وأمها، فإنها هي ما يشكل الوسط العادل والمضبوط. يقول أرسطو: «فالعدالة هى إذا وسط مضبوط » (الكتاب الخامس، الفصل الرابع).

هل يا ترى هذا هو ما يشير إليه الوسط / العدل: كناية عن مكان فارغ، أو على الأصح على لا مكان، على فناء وعدم ؟ هل هذا ما يرمز له مفهوما العدل والعدالة ؟ أوليس صحيحا إذا كونهما معا لهما وجود خاص ومميز : الغياب كشكل للحضور؟ أوليس صحيحا أن العدل، الوسط العدل والمضبوط، يوجد دائما ويحصل كافتقاد، كعدالة مفتقدة مثلا؟ وبالتالي فليس اعتباطا أن يتخذ أرسطو من الظلم، من الجور، من غياب العدالة، من حضورها المفتقد دوما والمرجإ دوما، أن يتخذ منه خيطا رفيعا في تعقب العدالة ومحاولة حدها. كما أنه لم يكن من الاعتباط في شيء كون أفلاطون قبله قد جعل من العدالة صفة إلهية، وذلك عندما قسم، في كتاب القوانين، أنواع الخير قسمين: بشري وإلهي. تماما، وللتذكير، كما سيصير عليه الأمر في ثقافتنا العربية-الإسلامية في ربطها صفة العدل بالله، كاسم من أسماء الجلالة.

إذاً فالفراغ، فالهشاشة التي لاحظها أرسطو، هي أكثر من صفر يحيل على علاقة (على الأصح على لا علاقة). فهو، إن صح القول، فراغ يعج بعلاقات قوة، تتفطر (تتصدع) لها حدود تصور يسعى إلى إرساء ما يقوم على العدِّ والحساب، إرساءِ ما يمكن قياسه: وهو مدار الضبط، على ما يتمنَّع ويستعصي عليه: العدالة التي تميز عالم البشر وتقيم سلوكهم !

يقول باطوشكا في سياق حديثه عن أفلاطون: « فالأشكال الهندسية تمكِّن، بدقة كل مرة أكبر، من تحديد صور وأشياء العالم المحيط بنا؛ الأشكال الهندسية أشكال مضبوطة، تماما كما هو الشأن بالنسبة لكل مُقاس. إلا أن ما هو مُقاس (بالضبط) بالمَقاس (وحسبه) ليس عدلا. نحن في حاجة بالنسبة لأفعالنا (البشرية) لشيء في معناها (في مقامها). يقول أرسطو: ”إذا كان من الأكيد أننا في حاجة لشيء من هذا القبيل،  فالفكرة/المثال لا يمكنها أن تمدنا بذلك. وبالتالي فهذه المهمة مسؤوليتنا وموقوفة حصرا علينا كبشر“ [14] ». لكن أوليس هذا ما تحتفظ به اللغة في قولنا: ” كثيرا ما تكون العدالة الصارمة غير عادلة“[15]، على ما يورده القاموس لالاند ! يبدو، أن هذا الربط وهذا الأفق هو ما تشير إليه قولة نتشه: «ما ينقصنا: عدالة جديدة ! وأمر جديد ! وفلاسفة جدد ! [16]».

في هذا الإطار يمكننا أن نتصور سبب تأكيد باطوشكا على حداثة أرسطو. يقول: «يلزمنا أن ننتبه إلى مدى ما ندين به لأرسطو حتى في تصورنا الحديث للحرية وللعقل العملي. يلزمنا أن ننتبه إلى أن أرسطو، ليس فقط الفيزياء، بمعنى المفهوم الأساسي لعلوم الطبيعة. (...) إن أرسطو ليس فقط حلا. بل هو قبل كل شيء إشكالية [17]

فالضبط، الوسط المضبوط، كفضيلة، وبالتالي أساسا، كعدالة واعتدال، يتعدى حكم الفرد كفرد، ليشمل حكم المجتمعات كتجمعات بشرية. وبالتالي فافتراض المفهومين المتبادلين لبعضهما البعض، يحيل بالأساس إلى ما سبقت الإشارة إليه تحت تسمية الأنطولوجية. ولقد كان بل ريكور على حق عندما خلص إلى القول: «أولا يمكننا القول بأن ما فعله أرسطو، وقد أقام معيارا مشتركا لكل الفضائل، كـ”ميزوتيس“، كحد وسط، كاعتدال، يمكن عده، بطريقة بعدية (تأملية، انعكاسية) بداية لمفهوم الكونية[18] ؟!»

في ترجمة مُحدثي الغربيين للمفهوم: مقتضيات تجربة العدالة/الضبط

الجزء الثاني من هذه المساءلة نفتتحه بالسؤال التالي: كيف حدث أن الفضيلة، كعدل واعتدال، بقدر ما بقيت شرطا غير محقق على مستوى الأفراد، وشكلت بالنسبة إليهم آفاقا تستشرفها فقط، بقيت مجرد دعوى بالنسبة للأمم والشعوب؟ كيف أن هذا الوسط على فراغه، حسب أرسطو، شكل رهانا لتدافع الأمم ومصدرا لصراعات الشعوب؟

أوليس نتشه، الذي يلاحظ عنه هيدجر: « لقد كانت فكرة العدالة ومنذ البداية مهيمنة على تفكير نتشه[19]»، هو نفسه الذي ينتقذ الوضع القائم الذي يجعل من اليونان ”أمة مسكونة بالإعتدال“[20]؟ ونتشه هذا، أوليس هو من يستجدي براءة الزوال، براءة المنتصف، منتصف النهار، لحظة الاعتدال وتساوي الظل لحقيقة الوجود وارتفاع الوهم ! أليس هو القائل:”يا براءة الزوال احضنيني[21]” ! إنه هو نفسه من وقع في حبال أفلاطون والأفلاطونية. لحظة الزوال، منتصف النهار، على شاكلة الوسط، الوسط المضبوط، عدل وإنصاف واعتدال بين شططين.

ولكن أليس هذا هو ما يؤخذ على هيدجر نفسه في حديثه عن «المهمة التاريخية لشعبنا الألماني باعتباره يشكل وسط الغرب (واعتداله)[22] ». لن نتوقف عند هذه التسمية: ”المهمة“، التي لا يمكنها أن لا تذكرنا بكتابات ماركس حول الهند (1853)، وحديثه عن «المهمة المزدوجة» الملقاة على عاتق انجلترا هناك[23] ! أولم يقع هيدجر هو أيضا ضحية لأفلاطون في إعلائه من شأن الوسط وانخراطه في الدفاع عنه. كان ما كان الاسم/اليافطة التي تحلى بها هذا الوسط: ألمانيا أو أوربا. أولم يؤمن بأنه في أوروبا/الوسط هذه، «الموجودة، كما يقول، بين فكي روسيا وأمريكا»، يلعب ”قدر الكون“ لعبته[24]! يقول هيدجر: « تلزم مراعاة كون قدر أوربا، التي يتقرر فيها قدر الكون، هو ما يحدده وجودنا في مأتاه التاريخي كمركز[25]». المركز! هاهي كلمة أخرى تنضاف إلى أخريات لمرور وتمرير العدل والاعتدال، الوسط والضبط.

في ماذا يتميز إذا هيدجر عن هوسرل، أستاذه، الذي يتحدث في نفس الوقت، وفي نفس الفترة، في محاضرته في براغ، عن فرادة أوربا بين الأمم ؟ «هناك في أوربا شيء فريد، شيء تستشعره كل التجمعات البشرية نفسها، وهو بالنسبة إليها، بغض الطرف عن كل منفعة، وحتى عندما تكون لديها نزعة قوية للمحافظة على نقائها، شيء يحثها على أن تتأورب دائما أكثر [26]»

وحتى نرفع كل لبس مرتبط بالسقوط الذي وقع فيه كل من هيدجر وهوسرل، الأول باسم انخراط سياسي، والثاني باسم يهودية ما، نُذكر بعلَم مقاوم، ليس أقلهما شهرة وإن كان قد تتلمذا عليهما معا، إنه الفيلسوف باطوشكا الذي سبقت الإشارة إلى اجتهاداته وآفاقها. يقول هذا الأخير: « إن التاريخ هو تاريخ أوربا، وليس هناك تاريخ غيره. فما يعرفه باقي العالم  هو عبارة عن حوليات وإسطوغرافيا، وليس تاريخا مستمرا لمهمة توحيدية قابلة لذيوع كوني[27]». ويقول: «فما يميز أوربا كأوربا هو مبدؤها الخاص هو التعميم. (…) كل واحد بوسعه أن يفهم الحضارة الأوربية، بما أن مبدأها اختصارا هو اثنان مضروبة في اثنان يساوي أربعة.  من هنا تستمد هذه الاستمرارية الخاصة،  إمكانية الذيوع الكوني[28]».

نضيف مثالا أخيرا، حتى لا نقف أكثر من اللازم عند هذه النقطة[29]، مثال الفيلسوف الأمريكي، رورتي. الذي ينفي« وجود حضارة أخرى تستحق التفضيل على الغرب الحديث». من هنا عزمه ”أمركة التاريخ“ وذلك باعتبار « مسيرة التاريخ نحو الحرية في التاريخ الحديث هي ما أوضحته مسيرة أمريكا نحو الأفضل واعتبار أن تجربة أمريكا في التاريخ يلزمها أن تقارب وتسبر على ضوء الأحسن في الديموقراطية الأمريكية[30]».

في التجربة العربية-الإسلامية

في الخطوة الثالثة والأخيرة من هذه المقالة، سأتوقف عند التجربة العربية-الإسلامية. وسأتوقف على الخصوص على المفاهيم الثلاثة التي صادفناها في الطريق الذي قطعناه حتى الآن: العدل، الوسط/المركز، الخير(الفضيلة). العدل كضبط وكإنصاف؛ الوسط، كمجلى لبسط العدل؛ والوسط بما هو اعتدال في النفس والسلوك، فهو فضيلة الفضائل (الخير الأسمى).

من الغريب أن لا يكون العدل في التقليد العربي-الإسلامي، الذي أحلنا عليه أكثر من مرة منذ بداية مقالتنا هذه، وفي خلاف واضح مع التجربة الغربية، أن لا يكون العدل كفضيلة، وسطا واعتدالا. إنه، ليس تعليقا للحكم (أو إيبوكي، على حد قول الفينومينولوجين) ، لتمكين طرفي الخلاف من الإبقاء على تساوي حظوظ نجاح مهمتهما الإقناعية؛ بل هو ميل وانحراف، وانتصار لهذا الطرف ضد ذلك الآخر! من هنا الحديث الذي جرى مجرى المثل: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما » (إذا كل ما قاله الآخرون عنا، ضمن آخرين، دون أن يفهموا أفقه: حنا آرندت في استشهاد سالف تتحدث عن ”عدم تحيز“) impartialité ( (عن وسطية، موضوعية،عدل وإنصاف) مميز للتجربة الغربية).

مثالان يكفيان لتبيان ذلك. الأول لمتصوف القرن 14، محي الدين بن عربي، الذي يعرف العدل في الفتوحات المكية، كالتالي: «ما ظهر الوجود إلا بالميل وهو العدل ». ويقول: «والعدل الميل، فالميل عين الاستقامة فيما لا تكون استقامته إلا عين الميل، فإن الحكم العدل لا يحكم إلا بين اثنين، فلابد أن يميل بالحكم مع صاحب الحق، وإذا مال إلى واحد مال عن الآخر ضرورة، فليست الاستقامة ما يتوهمه الناس[31]».

المثال الثاني، ما قبل الأخير، يكمن في الوقوف على بعض ترجمات الآيات التي تضم إحدى هذه الكلمات-المفاهيم الثلاثة. ففيما يتعلق بكلمة عدل، الواردة في السورة 16، الآية 90: يترجمها بلاشير «يأمر الله بالعدل ”équité” »، في حين يترجمها بيرك وكازمرسكي وشوراكي[32]: « يأمر الله بالعدل ” justice “».

وفيما يتعلق بنفس كلمة العدل في معنى آخر غير الضبط وغير الإنصاف، وهو ما نمثل له بالآية 70 من السورة 6 “وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها”، فيورد التراجمة تباعا[33]: المقابل، التعويض، الجزية/الفدية.

أما في ما يتعلق بالآية 110 من السورة 3، «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، والتي تصور بُعد الفضيلة للوسط والاعتدال، فترد ترجماتهم على الشكل التالي[34]:«كنتم خير أمة، أمة على غير مثال» ؛« كنتم خير أمة أخرجناها للناس » ؛ « أنتم الشعب الممتاز الذي ليس له مثيل بين الناس» ؛ « أنتم خير طرف ظهر بين الناس».

لنأتي لمفهوم أخير سبق وأن اعترضنا، مفهوم الوسط، الوارد في الآية 143، من السورة 2، « وكذلك جعلناكم أمة وسطا »، فترد الترجمات التالية [35]: «لقد جعلنا منكم أمة بعيدة عن التطرف » ؛ «أمة وسط ورحم وسط »؛ « أمة وسط بين الأمم ».

كل هذه التعقيدات التي تتوسط علاقتنا بذواتنا، بالآخر، إذا ما طرحنا جانبا فساد الطوية (وهو ليس بالأمر الهين !)، أولا تعود كلها إلى ثقل وصعوبة التفكير، التفكير في الترجمة، التفكير خارج الأحكام المسبقة ؟ أليست هي نفس الصعوبة في الوفاء بمهمة القبض (saisir, concevoir, auffassung) على المعنيين المختلفين لمفهوم العدالة، لمفهوم الضبط، لمفهوم الاعتدال والتوازن، التي تقوم عليها حيوات الشعوب والأفراد، داخل الفكر الغربي نفسه، وإيلائها حقها ؟!


















Bibliographie :

Arabi, Ibn : Les Conquêtes meckkoises, texte arabe, dar-al-fikr, 1994

Arendt, Hannah : Qu’est-ce que la politique ?, texte établi par Ursula Ludz,
  Seuil, 1995.
Aristote : Ethique à Nichomaque, tr., intr., et notes de J. Tricot, Vrin, 1987.

Berque, J : Le Coran, essai de traduction, Sindbad, 1990

Blachère, R : Ler Coran, Maisonneuve et Larose, 1980

Chouraqui, A : Le Coran, l’appel, Robert Laffont, 1990

Heidegger, M : Qu’est-ce ce qu’une chose ? tr. J. Taminiaux, Gall., Tel, 1971.
Introduction à la métaphysique, tr. et intr. G. Khan, Gall., Tel, 1967
Nieztsche, tr. de P. Klossowski, tome 1 et 2, Gall., 1971.

Husserl, E : La crise des sciences européennes et la phénoménologie
transcendantale, tr.et inr. G. Granel, Gall., Tel, 1976

Kasimirski : Le Coran, préfacé par M. Arkoun, Flammarion, 1970

Marx, K. : Œuvres politiques, tome 1 Gall., La pléiade, 1994

Nietzsche, F : Le Gai savoir, tr. Et intr. P. Klossowski, UGE, 10/18, 1957
Ce que je dois aux anciens, in : La naissance de la tragédie, tr. M ; Haar et al, Gall., Folio, 1977

Patoka, J : Platon et l’Europe, tr. E. Abrams, Verdier, 1983

Rawls, J : Théorie de la justice, tr. C Audard, Seuil, 1997

Ricoeur, P : Soi-même comme un autre, Seuil, 1990

Rorty, R : (et autres), La pensée américaine contemporaine, P.U.F, 1991



[1] Le juste/la justesse (Rechtig, Rechigkeit) ; le juste/la justice (Das Gerecht, die Gerechtigkeit)
[2] Aristote disait dans l’Ethique à Nicomoque, (V, 6, 1131a)  « si donc l’injuste est inégal, le juste est égal ».
[3] « Ce qui peut être appris » (M. Heidegger, Qu’est-ce qu’une chose ? p. 82)
[4]On qualifie de juste, dit Lalande, « celui qui dit le droit », il est « l’ensemble des règles que l’on reconnaît pour valables » (Dictionnaire Lalande)


[5] « Le juste et l’injuste ».
[6] « Est le simulacre d’une partie de la politique »
[7] « Affirmons-nous simplement qu’elle (la justice) consiste à dire la vérité et à rendre ce que l’on a reçu, ou bien qu’agir de la sorte est parfois juste, parfois injuste ? (…) »

[8] « Ainsi tout homme averti fuit l’excès et le défaut, recherche la bonne moyenne et lui donne la préférence, moyenne établie non relativement à l’objet, mais par rapport à nous ».
[9] « La vertu est donc une sorte de moyenne (…) un équilibre entre deux extrêmes ».
[10] « La vertu consiste en une juste moyenne ».
[11] « Il existe une juste moyenne, un excès et un défaut »
[12]  « Le juste milieu n’étant pas désigné par un terme particulier, les extrêmes, semble-t-il, se disputent, pour ainsi dire, une place vide ».
[13] « Elaborer une théorie de la justice qui soit une solution de rechange à ces doctrines qui ont dominé depuis longtemps notre tradition philosophique », à dire au début, tout au début de son livre sur la justice : « La justice est la première vertu des institutions sociales » (Théorie de la justice, p. 29).
[14] Patocka dit à propos de Platon: « (…) les formes géométriques permettent de définir avec une précision toujours plus grande les formes des choses du monde environnant. Les formes géométriques sont exactes (justes de justesse, MM), comme toute mesure, mais ce qui est mesuré d’après la mesure n’est pas exacte (juste de justice, MM). Nous avons besoin pour notre action de quelque chose d’analogue. Aristote dit: il est vrai que nous avons besoin de quelque chose d’analogue, mais cela, l’Idée ne pourra nous le donner. C’est notre tâche la plus propre » (Platon et l’Europe, p. 230).

[15]« La stricte justice est souvent injuste » (Lalande)
[16]) « Mais ce qui fait défaut, c’est une nouvelle justice ! Et un nouveau mot d’ordre ! Et de nouveaux philosophes ! » (Nietzsche, le Gai savoir, p. 278).

[17]  « Il faudrait nous rendre compte de ce que, même notre idée moderne de l’être libre et de la raison pratique doit Aristote. Il faudrait nous rendre compte qu’Aristote, ce n’est pas seulement la PHYSIS, au sens du concept fondamental des sciences de la nature. (…) Aristote n’est pas seulement une solution, Aristote est avant tout une problématique » (ibid., p. 226-227).
[18] « (…) Ne peut-on pas dire que l’établissement par Aristote d’un critère commun à toutes les vertus, à savoir la mésotès, le terme moyen, la méditée, prend rétrospectivement le sens d’une amorce d’universalité ? » (P. Ricoeur, Soi-même comme un autre, p. 238).

[19] Heidegger disait : « La pensée de la justice domine dès ses débuts la réflexion de Nietzsche » (Nietzsche, t. l, p. 490),
[20] Nietzsche, ne critiquait-il pas l’ordre établi qui faisait déjà des Grecs, une nation « éprise(s) du juste milieu » (Nietzsche, ce que je dois aux anciens) ?
[21] « Innocence du Midi, accueille-moi ! » (Gai savoir, p. 419
[22]  « de la mission historiale de notre peuple (allemand, MM) en tant qu’il est le milieu de l’Occident » (Heidegger, Introduction à la métaphysique, p. 61).
[23]Ecrits de Marx sur l’Inde (1853) et « la double mission » que l’Angleterre devait accomplir (voir, K. Marx, Oeuvres politiques, I, Gal. 1994, coll. La pléiade, p. 730).  
[24] qui « se trouve, disait-il, dans un étau entre la Russie et l’Amérique » (ibid., p. 56) où se joue « le destin de la planète » 
[25] « (…) Le destin de l’Europe, où se trouve décidé le destin de la planète, et il faut considérer encore qu’à l’intérieur de ce destin, pour l’Europe même, notre être-là proventuel se révèle comme le centre » (ibid., p.51).
[26]  Husserl « Il y a dans l’Europe quelque chose d’un genre unique, que tous les autres groupes humains eux-mêmes ressentent chez nous, et qui est pour eux, indépendamment de toute utilité, et même si leur volonté de conserver leur esprit propre reste inentamée, une incitation à s’européaniser cependant toujours davantage. » (Husserl, Krisis, p. 353-54).

[27] « (…) Or l’histoire est l’histoire de l’Europe, il n’y en a pas d’autre. Le reste du monde connaît des annales, l’historiographie, mais non pas la continuité d’une mission unitaire, susceptible d’universalisation » (Platon et l’Europe, p. 225).
[28]  « Ce qui est caractéristique de l’Europe en tant qu’Europe, c’est que son principe spécifique est la généralité (…). Chacun comprend la civilisation européenne, puisque le principe de la civilisation européenne, c’est grosso-modo deux fois deux font quatre. De là cette continuité spécifique, cette possibilité d’universalisation. » (ibid., 234).

[29] H. Arendt dit : « (…) Cette grande impartialité d’Homère (...) au sens d’une liberté absolue d’intérêts et d’une indépendance du jugement de l’histoire (…) est à la base de toute l’historiographie, et pas seulement occidentale : en fait, ce que nous entendons par histoire n’a jamais ni nulle part existé auparavant sans une influence au moins indirecte du modèle homérique. C’est la même idée que nous retrouvons dans l’introduction d’Hérodote (…), idée qui, comme l’a justement dit Burckhardt, « n’aurait pas pu venir à l’esprit d’un Egyptien ou d’un juif » (Qu’est-ce que la politique ?, Seuil, 1995, p.138.)   
[30] R. Rorty. Pour qui « il n’ya pas d’autre civilisation qui mérite d’être préférée à l’Occident moderne ». D’où sa volonté d’ « américaniser l’histoire » en considérant que « la marche vers la liberté au cours de l’histoire moderne est illustré par la marche de l’Amérique vers le mieux et que la marche de l’Amérique au cours de l’histoire doit être examinée et critiquée à la lumière de ce qui est le mieux dans la démocratie américaine » (R. Rorty, La pensée américaine contemporaine, p. 403).
[31] « L’être ne s’est manifesté que par l’inclinaison constituante du juste ». Plus loin : « le juste est une inclination et celle-ci (l’inclination) est la rectitude même de ce dont la rectitude ne peut être que dans l’inclination ; un jugement juste porte sur deux choses, et il est nécessaire de fléchir le jugement en faveur de celui qui a raison. Et du moment qu’il penche vers l’un, il s’éloigne de l’autre. L’exactitude (la rectitude) n’est donc pas ce que pensent (ce que croient) les gens ». (Les Conquêtes mecquoises, t.7, p. 429-430).
[32] Blachère traduit : « Allah ordonne l’équité » ; Berque : « Dieu ordonne la justice » ; Kasimirski : « Dieu commande la justice », Chouraqui : « Allah ordonne la justice » ;

[33] Kasimirski : « Quand même elle offrirait toute espèce d’équivalent, elle sera refusée » ; Chouraqui : « Aucune compensation qu’il puisse offrir ne sera prise de lui » ; Blachère : « Et si elle offre son égal (en compensation), cela ne sera point accepté » ; Berque : « Même si elle offre rançon plénière, l’offre ne sera pas reçu d’elle ».

[34] : Berque : « Vous avez été la meilleure communauté jamais produite » ; Blachère : « Vous êtes la meilleure communauté qu’on ait fait surgir pour les Hommes » ; Kasimirski (décalage, III/106) : « Vous êtes le peuple le plus excellent qui soit jamais surgi parmi les hommes » ; Chouraqui : « Vous êtes la meilleure des parties manifestées pour les humains » ;

[35] Blachère : « Ainsi, nous avons fait de vous une communauté éloignée des extrêmes » ; Berque : « Ainsi vous constituons-Nous communauté médiane » ; Chouraqui : « Ainsi nous avons fait de vous une matrice médiatrice » ; Kasimirski (décalage, II/137) : « C’est ainsi que nous avons fait de vous une nation intermédiaire ».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق