الأحد، 27 نوفمبر 2016

إشكالية الملك ونظامه في الإسلام



جامعة القاضي عياض                                                                                          شعبة الفلسفة
كلية الآداب والعلوم الإنسانية                                                                  مسلك الفلسفة
           مراكش                                                                مادة الفلسفة وعلم الكلام- الفصل الثالث


       (مطبوع دراسي)
السنة الجامعية : 2012-2013
                                                        ذ. محمد موهوب

بين يدي كتاب الضروري في السياسة لابن رشد، ومن أجل مقاربة موضوعه, نعتمد في هذا المطبوع الدراسي الخطوات التالية :
لماذا يتم الحديث عن الملكية وليس عن الخلافة، السلطة أو حتى الإمامة، علما أن بعض هذه الألقاب ظل مستعملا حتى بدايات الاستقلالات العربية الإسلامية؟
الآداب السلطانية التي طرقت الموضوع ومنزلة "الضروري في السياسة" منها.
ما هي مقتضيات الحديث في الملك ونظامه: نظرية الدولة، السياسة، الحرية ...؟
1) فيما يتعلق بالملك كتسمية، تلزم الملاحظة التالية: " أول من وصف الأمويين بالملوك ووصف نظام دولتهم بالملك هم أعداؤهم، معبرين بذلك عن ازدرائهم لحكم غير ديني، حكم ملتفت نحو الدنيا. ولشدة ما اعتبر وصف الملك قدحا، فإنه لم يتم ادعاؤه علنا من طرف سادة المسلمين في القرون الأولى. وعلى العكس من ذلك، فقد كان عادي السريان في حق غير المسلمين من الملوك، مرفقا أحيانا باحتقار مكشوف". (موسوعة الإسلام، مادة ملك).
فيما يتعلق بالملكية (royauté) يشار إلى أن "ما طال التسمية من بخس كان العلة الأساسية وراء اختفائها في الأزمنة المتأخرة، فلم يتلقب به السلاطين العثمانيون بانتظام.(....) في حين ظهر من جديد في البلدان الإسلامية في القرن 20، لقب الملك بمعنى جديد، معنى يحتوي الكثير من العظمة، وهكذا تبعا لأكثر من قرن من الاحتكاك بالملكيات الأوربية، بدأت فكرة الملكية توحي بالكثير من الاحترام وفقد وصف الملك شحناته القدحية، غير أن عودة التسمية لم تعن إعادة الاعتبار للمفهوم القديم، بقدر ما تعني استنساخ تسمية الملك على طريقة أوربا المعاصرة."

نختم بنص للمؤرخ مشليه:" (...) فالملكية أمل، وهي وإن كانت تبدو راقدة فإنها بوسعها كحق حي أن تستيقظ على مهلها، فالملكية ستظهر من جديد (...) مع أسرة الملاكين الكبار أصحاب الكنيسة" (تاريخ فرنسا، 3.2).
2) أما عن أهمية كتاب الضروري في السياسة (مختصر كتاب السياسة لأفلاطون) لابن رشد لا حاجة للوقوف عندها طويلا، ليس فقط لأن صاحب الكتاب هو ابن رشد، قاضي قرطبة، ولا لأن الكتاب في الطبعة المتداولة جاء مرفقا بمقدمة من طرف القيم على مشروع إعادة تحقيق كتب ابن رشد، الأستاذ محمد عابد الجابري، تكاد تعدل في حجمها نصف حجم الكتاب المترجم (70 صفحة)، ولا لأن صاحب الترجمة، الأستاذ أحمد شحلان، ذيله بتأطيرالمؤلفات الرشدية في التراث العبري والوقوف عند الترجمة الإنجليزية التي تمت عن العبرية، التي احتضنت هذا النص بعد غياب الأصل العربي، بل وأضاف ملحقا أخرج فيه النص المختصر من طرف ابن رشد وأعطانا النص في الترجمة الحديثة من كتاب الجمهورية لأفلاطون التي قام بها الدكتور فؤاذ زكريا، الكل في أكثر من مائة صفحة (من 211 إلى 337).
بل إن هذا الكتاب وجد قبل 1998، تاريخ صدور النص العربي، وجد في عالم كبير، هو الأستاذ محسن مهدي فرصة ثانية للحديث عن موضوع الكتاب، السياسة في الإسلام وعلاقة الفلاسفة المسلمين بالتجربة اليونانية، في الكتاب الحديث الصدور في طبعته الفرنسية (المدينة الفاضلة لدى الفارابي, ألبان ميشيل, 2000). كل هذا يثبت من جهة ما يسميه محسن مهدي ب " الطابع الاستثنائي لهذا الكتاب" ص.93 من مداخلته: الفارابي وابن رشد، ملاحظات حول شرح ابن رشد لجمهورية أفلاطون: ص.91-101.
كل هذا يعفينا من التقديم المفصل للكتاب، والاكتفاء بالوقوف عند بعض الملاحظات.
3) الكتاب الذي بين أيدينا جاء في ثلاثة مقالات غير متكافئة: الأولى من ص.72 إلى ص.134 والثانية من ص.135 إلى ص.166 والثالثة من ص. 167 إلى ص.206، ثم تأتي الخاتمة في صفحتي 207-208.
و على ما جرت عليه عادة ابن رشد في مقدمات كتبه، مختصر المستصفى مثلا, يبدأ بتوضيح ما هو مقدم عليه. ما يقصد إليه الضروري في السياسة، كما كان الشأن بالنسبة للضروري في الفقه، هو تجريد " الأقاويل التي فيهما أقاويل جدلية (115). ثم يبدأ في تحديد موضوع علم السياسة كعلم ينضوي بموضوعه تحت " العلم المدني". فما شكل هذا الانضواء؟
اشتهر العلم الذي يطرق موضوع السياسة في التقليد العربي الإسلامي بالعلم المدني، وهو علم عملي يتميز عن العلوم النظرية من حيث موضوعه لا من حيث مبادئه: وكما أن موضوع العلم الطبيعي هو الأشياء الطبيعية، ومبادئها الطبع والطبيعة (وكما أن) موضوع العلم الإلهي، الأمور الإلهية، مبدأه الله سبحانه وتعالى، "فإن موضوع العلم المدني هو الأفعال الإرادية التي يتصدر عنها، ومبادئه الإرادة والاختيار" (72). أما اختلافه عن العلوم النظرية فمن جهة الغاية، فإذا كانت غاية العلم النظري " هي العلم لذات العلم" والعمل لا يتحقق منه إلا عرضا (= كثير من الأمور التي ينظر فيها أصحاب التعاليم) فإن غاية العلم المدني هي العمل "فقط".
و هذا العلم قسمان: قسم يهتم ب " الملكات والأفعال الإرادية والعادات جملة"، وقسم يهتم بالكيفية التي ترسخ بها هذه الملكات في النفوس..."(73). ونسبة القسم الأول إلى القسم الثاني هي " كنسب كتاب الصحة والمرض إلى كتاب حفظ الصحة وإزالة المرض في صناعة الطب". القسم الأول من العلم المدني تضمنه كتاب أرسطو المعروف بالأخلاق إلى نيقوماخوس، والثاني يفحص عنه في كتابه المعروف بالسياسة "و أيضا يضيف ابن رشد في كتاب أفلاطون...".
و هذه واحدة من الإشكالات التي سيطرحها هذا الكتاب. فهو لا يكتفي بإحالة موضوع علمي (هو السياسة وقضايا الأمة الإسلامية) على ضرورة الاسترشاد بالتجربة اليونانية بل ينتقل من أرسطو إلى أفلاطون وكان لا اختلاف بينهما.
إلا أنه وقبل أن يشرع ابن رشد في تلخيصه يذكرنا بخلاصات القسم الأول الذي فصله أرسطو، كما سبقت الإشارة في " الأخلاق إلى نيقوماخوس" الذي قدم له ابن رشد تلخيصا بقيت منه شذرات يهمنا منها واحدة:"الإنسان يحتاج في حصوله على فضيلته (كـإنسان) الى أناس غيره، ولذلك قيل بحق عن الإنسان: أنه مدني بالطبع" (74). هذه الضرورة، ضرورة ولزوم الحياة الاجتماعية لكل فرد فرد لا تقتصر على " الكمالات الإنسانية" (=أي ما به الإنسان إنسان، وما به تتم له الإنسانية) بل تتعداها إلى جميع الأشياء الضرورية لحياة الإنسان" (75). وليس من الممكن أن توجد الكمالات الإنسانية إلا متفرقة في جماعة" (75). إذا ففي هذا العالم ليس هناك مكان للمتوحد. وإذا انضاف إلى عنصر ضرورة الاجتماع, عنصر التفاضل والاختلاف, المؤسس لكل مجتمع مجتمع: " ولو كانت أجزاء النفس لا يفضل بعضها بعضا (...) لكان الاجتماع الإنساني هو اجتماع أحرار" (180) أي غير مقيدين بشرط/ضرورة الاجتماع/الحاجة، عندها تنتفي دعوى عزلة الحديث الفلسفي الإسلامي في السياسة.
أهمية هذه الخلاصة هو تنفيذها للادعاء الذي ساد وما يزال دراسات الفكر السياسي في الإسلام وأن المفارقة التي استنفذته: الدولة/المجتمع في مقابل ما يسميه الأستاذ العروي"فردا نية الفيلسوف" (مفهوم الدولة، 109). "لقد وجد الفلاسفة المسلمون في المؤلفات اليونانية مبررات لموقفهم الانعزالي" (110ن.م). ويقول: "إن الدولة وهي خلاصة التجمع الإنساني، لم تعد تضمن للفرد تحقيق تلك الغاية [مكارم الأخلاق] كما هو واجب عقلا ودينا. فماذا يسع المرء العاقل في هذه الحالة سوى (...) طريق العزلة والانفراد" (110). "لهذا السبب نجد المنطق الحقيقي لمجموع التأليف الفلسفي الإسلامي من الفارابي إلى ابن رشد عند ابن باجة. لقد قيل أن هذا الأخير العقلاني المتطرف قد تخطى حدود الإسلام، لكن إذا تمعنا في المسألة، نجد أنه لا يعدو التصريح بما كان ضمنيا عند من سبقه من زملائه الفلاسفة" (ن.م 142).
لا تقتصر أهمية هذه الخلاصة، ضرورة الاجتماع الإنساني في صيغها المتعددة : "المدينة ضرورية لوجود الإنسان"(142), " ضرورة الاجتماع في الوجود الإنساني" (148)... لا تتجلى فقط في تفنيد هذا الرأي بل في فتحنا على المفهوم الأساس في السياسة: مفهوم العدل.

يقول ابن رشد مذكرا بكتاب النفس لأرسطو أي بالعلم الوسيطي: " وبالجملة فنسبة هذه الفضائل في أجزاء المدينة هي كنسبة القوى النفسانية في أجزاء النفس..." (76) (=فالحال في المدينة كالحال في النفس" (77). وبقدر تحققها في النفس يتحقق العدل." فالعدل هو أن يفعل كل من جزء من أجزاء المدينة [المدينة/النفس] ما عليه أن يفعل، بالقدر الذي يجب وفي الوقت الذي يجب" (77) وعلى العدل قامت كل الآداب السلطانية وبه قامت الموجودات.
ملحوظة: صحيح أن أفلاطون يتحدث عما في الطبع (= الصلاح الذي في الطبع في الصفحة 83 , من كان شريرا بالطبع ولا يفيد فيه علاج, ص. 101). إلا أنه يتحدث عن الحيلة التي ينبغي أن تتبع في تثبيتها [فضائل التوجيه لخوض الحروب العادلة] في نفوسهم [الحفظة] (101).
إذا منهجيا كيف تصرف ابن رشد/أفلاطون في موضوعه؟ بعد أن وقف أفلاطون/ابن رشد على أن العدل هو إنزال الأشياء مواضعها (سواء كان ذلك في النفس أو المدينة), عرج على إظهار ذلك بالحروف الكبيرة حتى تتم قراءته بسهولة قبل أن يقف على الحروف الصغيرة(=النفس) التي تقتضي قراءتها شيئا من العناء:" وكما يكون آمر العدل أكثر وضوحا في المدينة مما يكون عليه الحال في نفس الفرد..." (180). وهو ما لا يفهم بسهولة في تلخيص ابن رشد وذلك بسبب الحذف الذي قام به للكتاب الأول من الجمهورية والجزء الأول من الكتاب الثاني الذي يقدم فيهما أفلاطون نظرية الكهف. إن بداية ابن رشد، مباشرة بعد طرح قضية العدل بالحديث الطويل [يستغرق تقريبا كل المقالة الأولى، أطول المقالات الثلاثة التي يتكون منها التنبيه الوارد في ص.115-116[ يحول دون تبين الصلة بموضوع الكتاب.
يعود ابن رشد إلى ما كان بصدده:"و يبقى علينا القول في الفضيلة الرابعة [العدل، بعد الحكمة، الشجاعة والعفة] وهي التي كان النظر فيها من مبدأ الكلام" (ص.119). العدل، ما العدل؟
يقول أفلاطون: إنه شيئا آخر غير ما وقفنا عليه في ما تقدم من وصفنا لسياسة المدينة الفاضلة:" العدل هو أن يفعل كل واحد من أهلها [المدينة] ما هو مخصوص بفعله" (120) وهذا هو العلم المدني (ن.ص).
ثم يرجع أفلاطون/ابن رشد إلى العدل في النفس. ما هو؟ يقول:" ولما كان ذلك كله كما وصفنا، وكانت هذه القوى الثلاثة [ العاقلة، الغضبية، الشهوانية] توجد في النفس على الحال التي هي عليها في المدينة الواحدة، كان السبب في وجودها في المدينة هو نفسه سبب وجودها في النفس. والعدل والإنصاف اللذان في نفس الفرد إنما هما كما هو الحال في المدينة، أن يفعل كل من أجزائها ما ينبغي فعله" (122). (="العدل في نفس الفرد هو عينه العدل في المدينة" (ص.ن). وبذلك ينتهي قول أفلاطون في "الحفظة" (="الحماة" يقول أفلاطون" وإذا لم يتحول هؤلاء من صنف الحفظة وبقوا حماة..." (181)). وما قاله عن هذا الصنف يصدق على الأصناف (=الطبقات) الأخرى المشكلة للمدينة " وإن كان التروض يختلف من صنف إلى صنف"(134). فخلاصة الحديث عن صنف الفلاسفة مثلا وهو موضوع المقالة الثانية، يجري عليه عموما ما يجري على صنف الحفظة. بل إن الحفظة ليسوا في النهاية سوى الفلاسفة: فبعد أن بدأوا بعلوم التعاليم: العدد والهندسة، الهيئة والموسيقى، " وارتضوا بركوب الخيل" إلى أن بلغوا العشرين عندها يبدؤون النظر في الفلسفة حتى الثلاثين، أي حتى تحققهم من جميع أجزائها وفي الخامسة والثلاثين يوضع الجيش تحت إمرتهم، " فإذا ما بلغوا الخمسين استحقوا الرياسة على المدينة وحكموها" (163).
يظهر إذا أن الكتاب هو وصف لمسيرة الملك نحو تحققه الأوضاع العادلة التي تسمح بقيام كل واحد في نفسه وفي جماعته بما يحق له وبما يجب عليه، والمقالة الثالثة تعرض لأنواع الانزلاقات التي تعترض قيام الدول وابتعادها عن المقوم الأساس الذي أوجدها: العدل. وهو مجال النقد، نقد الأوضاع القائمة، الذي يجعل من هذا الكتاب، في اعتقاد م.ع.ج، المسؤول عن نكبة ابن رشد: وذلك للتعريض فيه بالحكم القائم في زمانه (مثلا، ص178). معلومتان اثنتان يلزم أخذهما بعين الاعتبار في كل حديث قيام الدول ببلادنا الإسلامية* كتاب السياسة لأرسطو، تم اكتشافه في الغرب اللاتيني في القرن 13 الميلادي مع ألبير الكبير وطوما الإكويني (=تحت تأثير ابن رشد) هو ما يؤسس لعلم السياسة في الغرب، في حين أن التقليد الإسلامي الذي كان على استعداد لتقبل مادية (دنيوية) إقبال أرسطو على الحياة سيتأسس على كتابي "الجمهورية والقوانين" لأفلاطون.
السؤال/ المفارقة: ما الداعي/الدواعي إلى ذلك في الحالتين معا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق